الغيرة ليست على الإطلاق استجابة بسيطة بالقدر الذي نفترض،
على الرغم من أننا نعتبرها "طبيعية" جداً.
إن المرء يستشعرها حقاً على الغالب، حتى ولو لم تكن الظروف تسوّغها في الواقع.
والوضع النموذجي للغيرة هو بالطبع وضع المنافسة في الحب.
وبقدر ما تكون الغيرة استجابة كره وعدوانية لخسارة أو لتهديد بالخسارة،
فهي بسيطة جداً، وبدائية، ولا مفرّ منها أيضاً كأي استجابة من هذا النسق.
وثمة عنصر خاص بالغيرة هو مع ذلك الذلّ الذي يرافقها بصورة ثابتة،
بالنظر إلى الجرح الذي يسبّبه للثقة بالذات ولعاطفة الأمن.
وخسارة الثقة بالذات لا يحسّ بها الشخص الغيور على نحو شعوري دائماً.
وإذا فكرتم بالمر، فإنه يتبيّن لكم أن الغيور يشعر بأنه أقل ذلاً بقدر ما يشعر بأنه أكثر غضباً وعدوانية. وهو، على العكس،
أكثر تعاسة واكتئاباً بقدر ما يشعر أنه اقل عدوانية وأقل غضباً.
ويشعر الغيور حتماً بالذل والدونية؛ ويشعر، دون وعي كبير، بأنه محتقر، ومكتئب، وآثم.
وشرحُ ذلك انه إذا لم يكن محبوباً أو إذا اعتقد أنه غير محبوب،
فإن الدلالة اللا شعورية لهذه الحالة هي أنه ليس بوسع الناس أن يحبوه، وأنه بغيض،
وأن الكره كامن فيه. وهو يعاني، معاناة شعورية أو لا شعورية،
ذلك الانطباع الذي مفاده أن السبب في أن الشخص المحبوب تخلّى عنه أو نسيه يكمن في أنه هو لم يكن طيّباً بما فيه الكفاية معه.
وهذه الفكرة، فكرة أنه غير محبوب، توقظ في نفسه (مع كل المخاوف من الوحدة، مخاوف ترافق هذه الفكرة) اكتئاباً وشعوراً بأنه معرّض إلى خطر دون القدرة على الدفاع عن نفسه، اكتئاباً وشعوراً لا يحتملان.
وذلك يشرح حدّة الغيرة ومرارتها المعذّبة، وتلك حالة نحاول جميعنا أن نخفّف من حدّتها إذ نوجّه الإدانة إلى شخص من الأشخاص ونكرهه، أي المنافس في هذه الحال.
ولدينا الحاجة في الطفولة إلى أن نسقط خارج أنفسنا، على شخص آخر، حالات غضبنا الخطرة وإلى أن نجعلها تتوحّد بهذا الشخص، إذ نتوحّد نحن بحالة من الهناء. ومن المحتمل أن تكوّن هذه الحاجة أحد المحرّضات الرئيسة على الاعتراف بوجود أشخاص آخرين. فكل اهتمامنا الذي ينصبّ على العالم الخارجي والأشخاص الآخرين ينبني في نهاية المطاف، بعبارة أخرى، على حاجتنا إليهم.
من هنا وعندما يعاني أحدهم _على نحو لا شعوري _ عاطفة مفادها غياب الحب والطيبة لديه ويخشى أن يكون الشريك في الحب قد اكتشف هذا الغياب أو أن غياب الحب يسبّب له أذى، فإنه يبدأ عندئذ بأن يكون غيوراً وأن يبحث لدى الآخر عن غياب الحب حتى لا يرى هذا العيب في نفسه فقط، وحتى يرى الأذى لدى منافس من المنافسين بدلاً من أن يراه في نفسه.
وسنلاحظ أن هذا الاتهام "أنت لا تحبني" يضغط على جميع خصومات العاشقين وعلى الخلافات التي يعرفها بعض المتزوجين الشباب قبل أن "يتعلّقوا" كما كان يقول جيل الشيوخ. فالشعور بالتعاسة والإثم، والتكفير في الندم والبكاء، والتبرئة في الغفران النهائي، كل ذلك يبرهن برهاناً واضحاً على أن ثمة عاطفة لا شعورية أن المرء غير محبوب، ولا يساوي شيئاً، هي التي تشغّل هذه السيرورة من الخصام.
وأخيراً لا يستجيب الرجل الذي فقد المرأة التي يحبها، أو الذي يعتقد انه سيفقدها، لخسارة الحب الذي تحمله له أو حرمانه من ملكيتها فحسب، بل إن هذا الحب وهذه الملكية هما، في ناظريه، برهانان على قيمته الخاصة، وخسارتُهما، بوصفهما كذلك، يهدّد أمنه الشخصي في عالمه النفسي إن لم نتكلم على العالم الخارجي. فقيمته، بالنسبة له، قد ترمز إليها القوة، والذكاء، واستطاعة جنسية، وفضائل أخلاقية، وثروات _وكل شيء من كثير من رموز الأشياء الجيدة التي تختلف وفق كل فرد ولكنها التي تمثّل في كل حالة تلك الضمانات التي يختارها فرد من الأفراد. وهذه الضمانات تعمل بوصفها مصادر داخلية توازن أخطار القوى السيئة في نفسه وتحميه من هذه القوى. ومعظم الناس يعانون، في الزواج على وجه الخصوص،
وهو مؤسسة تنطوي على مسؤوليات والتزامات متبادلة،
انطباعاً مفاده أن الشريك يعترف _إذن يبرهن _ بهذا الرجحان،
رجحان الجيد على السيء، وهو الجيد الذي نبحث عنه جميعنا وسلام أنفسنا منوط به.
وقد يكون مثيراً للاهتمام أن ندرس الزواج المتمدّن انطلاقاً من وجهة النظر هذه. فإلى أي حدّ من الحدود تؤدّي هذه الحاجة إلى الاطمئنان فيما يخصّ قيمة الفرد الخاصة، إذا قارناها بالحب أو الرغبة الجنسية، دوراً ذا أهمية في قرارات الزواج لدى الرجال والنساء؟ قد يكون عسيراً تقدير هذه الدافعيات المختلفة لدى الأفراد الأكثر سواء إلا إذا أخضعناهم للتحليل النفسي.
والحب المتبادل يكوّن ضماناً مضاعفاً بالنسبة لكل شريك من الشريكين. فحب الآخر، إذا انضاف إلى حب الفرد نفسه، يضاعف احتياطيات الحب والهناء،ويضاعف إذن احتياطات الضمان ضد الألم ونزعة التدمير والتعاسة الداخلية.
وعندما تصبح آلية الإسقاط خطيرة جداً، ويصبح الحصر وانعدام الثقة بالآخرين، اللذان ينجمان عنها، حادين جداً، فإن التبعية في الزواج تتيح المجال لضروب من الإفراط في الخوف والكره ستهدم كل إمكان لحالة من لذة الحب وتُدخل الإحباط والتفكك في الدارة المفرغة للرغبة في التملك.